منذ أن هنأنا الغرب بهبوب رياح الربيع العربي «الذي أنتجه وساهم في تكوينه وتطوراته»، ولم تهدأ أحوال العالم العربي، الذي زاد اضطرابات وتنازعا واقتتالا وتناحرا وتقسيما، والسر الجوهري وراء ذلك يكمن في أن الغرب وحلفاءه من العرب وغيرهم هم الممول الأساسي لكل الأطراف المتنازعة في آن واحد
وواضح أن الغاية من وراء ذلك هو خلق حالات من الاضطراب واللااستقرار يتم استنادا إليها تبرير أي ترتيبات يتم فرضها على الواقع، وتمهد لتحقيق أهداف رياح الربيع العربي كما رسمه الغرب، وهو تقسيم جديد للعديد من الدول العربية، وضمان أمن إسرائيل، خلق حالة الهلع واللااستقرار، وإظهار المجاميع المتطرفة بما يسيء للإسلام، بما يصاحب ما سبق من تبرير التسلح، وإنعاش اقتصاد الغرب العسكري وصناعاته.
منذ هبوب رياح الربيع العربي، ونحن نتابع مشاهد التراجع والانتكاس في كل دول ما سمي بالربيع العربي، أو ما يدور في فلكها، فيبدو ان اليمن سلم لإيران لقمة سائغة، ولا تزال أحواله مضطربة وخربة، ومآلها للمزيد من النزاع والانقسام، وربما التقسيم، ومصر ما زالت تعاني من وضع غير مستقر وتتجاذبها خلافات نسأل الله أن يجنبها النزاع، والسودان رغم تقسيمه لدولتين، فإن أحواله تزداد سوءا واضطرابا، وسوريا تتزايد، وبشكل مخيف، يوميا أعداد الأبرياء والمدنيين الذين يقتلون على يد النظام وأطراف مشبوهة، ومآسي اللاجئين وأعدادهم مستمرة وسياسات الغرب تجاهها تتغير عن قصد ودراية، مما يطيل أمد دوامة سوريا، ويؤكد الرغبة في عدم الحسم وصولا الى الاستقرار، ما يؤكد خباثة المخطط وتواطؤ أطرافه. وليبيا ما زالت تتعاظم فيها مراكز القوى وزعاماتها، وهو ما ألحق دمارا مريعا بليبيا ومستقبل استقرارها. والعراق ما زال في تجاذباته وجنوحه ومسلكه الطائفي البغيض.
ويبقى أن تونس من بين دول الربيع العربي التي تستحق التقدير والرصد والمتابعة، فهي لم تنجر إلى حالة الصراع والاقتتال، فقد نجح التونسيون أن يعبروا بدولتهم أعتى رياح الربيع العربي، من خلال الحوار والقبول بالممارسة الديموقراطية، وهو ما أمن لتونس نجاح تجربة وضع الدستور من خلال مجلس تأسيسي مثلت فيه كل الأطراف، القديم والجديد، اليسار واليمين، الإسلامي والمحافظ والليبرالي، وهو ما سهل إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لأكثر من مرة، وهو ما تم بأسلوب حضاري وكرس فكرة التداول السلمي للسلطة.
وقد جاءت انتخابات الرئاسة الأخيرة لتعزز من نضج الشعب التونسي وقدرته على التعايش في إطار من التعددية الحقيقية، وبحضور كامل لكل أطيافه السياسية، وقبولها للتداول السلمي للسلطة، رغم وجود اختلافات فكرية وسياسية عميقة، لكن إدراك التونسيين أن الوطن أهم وأسمى من الاختلاف، والذي لا يصح أن يقود إلى تنازع مسلح، وإقصاء أي طرف من العملية السياسية، حفظ لتونس وحدتها، وأعطى نموذجا وحيدا للتغيير الإيجابي الذي أحدثه الربيع العربي، وأتمنى استمرار ذلك لتفويت الفرصة على المتربّص لتونس بالسوء، من خلال تغذية خلافات محددة أو تغذية نوازع للفتنة قد يكون البعض يسعى للانجراف إليها.
اللهم اني بلغت،
أ. د. محمد عبدالمحسن المقاطع
dralmoqatei@almoqatei.net