من يقلِّب صفحات التاريخ فسيجد فيها صفحات مشرقة من تاريخ أمتنا، ويدرك أنها صفحات ناصعة البياض، سطّرت معالمها حضارة رائدة وإنجازات عديدة، وذلك بفضل ما تميّزت به الأمة من مبادئ نابعة من ديننا الإسلامي السمح بمنظومة قيمه المتكاملة؛ ومنها الصدق والأمانة والتسامح والنبل، والأخلاق الكريمة، وهو ما سطّرت روائعها المميزة تلك الصفحات التي يفخر بها كل من ينتمي إلى هذه الأمة.
إلا أن الحقيقة الأخرى ــــ أيضاً ــــ هي أن أننا أمة لم تحافظ على سمات تميّزها وهويتها الفريدة، فتدافع البعض منا نحو أمجاد شخصية أو إحياء لنعرات بالية، ونسى أغلبنا أن الله ــــ تعالى ــــ أعزّنا بالإسلام، ورفع من شأننا، حينما كانت مبادئه المتمثلة في العدل والمساواة وتغليب مصلحة المجموع هي مكامن لقوتنا القيمية والإنسانية، فتسابق هؤلاء إلى تحول وردّة قيمية، تهاوت معها مبادئنا الإنسانية المتميزة وصاحبها انهيار أخلاقي عانت منه أمتنا، ومرت به في مراحل مختلفة من حقب التاريخ، وهو ما جلب الويلات والتفكّك والانهيار لها، وهي حقيقة تصدق بحق كل الأمم التي لم تستمر، وتلك سنة من سنن الله الثابتة، حينما تتخلّى الأمم عن أسباب قوتها وركائز منعتها. ففي أعقاب دولة الخلافة التي اتسعت رقعتها وذاع صيتها دبت الخلافات وصار بلوغ الخلافة طموحاً عائلياً، لا تشييداً لدولة إنسانية، فجاءت الدولة الأموية، ولكونها أقيمت على الاستئثار والملك العضوض لا الإرادة الشعبية، فقد دبّ فيها الضعف بعد القوة، وتمكَّن الوشاة من نخرها من الداخل لتخليها عن منظومة القيم المتميزة، فصار الصراع والغلبة، فما لبثت أن انهارت الدولة، ونشأت في أعقابها الدولة العباسية، ومرت بنفس مراحلها
فانهارت هي أيضا، ثم شاعت إمارات الاستيلاء والغلبة، وظهرت عندنا دويلات الطموح الشخصية، وتمكّنت الأمم الأخرى من أن تجعل بأسنا بيننا شديداً، فزاد تخلينا عن المنظومة الإخلاقية والقيمية، فزاد تفككننا وانهيارنا، بما في ذلك نموذج الدولة الأموية بالأندلس التي لم تحسن الحفاظ على تماسكها ووحدتها، مما مهد الطريق لأمراء الطوائف، ومن ورائهم الغرب يحرّض بعضُنا على بعض، فكان الانهيار والاضمحلال، وقد أُعيد الحال نفسه مع الدولة العثمانية التي اكتسبت قوة غير مسبوقة وتميزا حقيقيا، منحها عمرا زمانيا أطول، إلا أن الخلافات التي دبت بيننا قد نالت من دولة الخلافة العثمانية، خصوصا مع التخلّي الواضح عن المنظومة القيمية والأخلاقية في أواخر عهدها، بل وتكالب الغرب عليها، ونجاحه في أن يغذّي نعراتنا العرقية والمذهبية، حتى ينسلخ العرب عن العثمانيين وبقية الأعراق الأعجمية أيضاً، ليتم إغراء زعامات متفرّقة بإقامة دويلات وبتولي رئاستها، فكانت الاستجابة سريعة
وقد أخضعنا الغرب لثورته الصناعية وريادته العسكرية، فنصب أنظمة موالية له، فكان القرنان التاسع عشر والعشرون مرحلة تقسيمنا وتفتيتنا وتركيعنا بالتبعيات للغرب، للاستيلاء على أمتنا وثرواتها واقتسامها، فقيدونا بمنظومة التبعية التعليمية والثقافية لإبعادنا عن منظومتنا المتميزة فكان ذلك، فصرنا دويلات لا يأمن بعضنا بعضاً، يوظفنا الغرب كيفما شاء، خدمة لأهدافه وإقصائها لنا عن هويتنا، فتمت مسايرتهم وسُخّرت لهم العديد من الدول التي تخلّت عن أسباب منعتنا ومنظومتنا القيمية، وعشنا دوامة التحرر الظاهري من الاستعمار منذ بدايات القرن العشرين ونحن في حالة قبول واستسلام للاستعمار الثقافي والحضاري الذي كان يشيد على منظومة قيمية واخلاقية غريبة على هويتنا وأمتنا، فشاعت أحوال التحلل وصيحات تحرير المرأة بمفاهيم مغلوطة والعلمانية لإقصاء الدين عن حياتنا
ونُشرت الليبرالية الخطأ للقضاء على المنظومة القيمية التي كانت سدا منيعا من اختراق الغرب لنا، وهكذا فقد جنينا على أنفسنا في ما نعيشه اليوم من هوان وضعف وذلة وتبعية، جوهرها أننا أمة قد طاب لها أن تكون لعبة بيد الأمم منذ أن تخلينا عن مكمن قوتنا وتميزنا، وقبلنا بأن نكون أدوات بعد أن كنّا نصنع التاريخ، فكان ذلك الانهيار القيمي هو انهيار أمة تعاني الأمرين وليس لها من نهضة إلا بإدراك سبب انهيارها، بل وتمسّكها بدينها وإحيائها منظومة قيمها، «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم».
أ.د. محمد عبد المحسن المقاطع
dralmoqatei@almoqatei.net
al_moqatei@