منذ خمس سنوات وقبلها ثلاث أخرى، كتبتُ راصداً لبداية تحالفات سياسية جديدة - قديمة، وكان رصداً ومتابعة لتلك الإرهاصات السياسية الناعمة، التي تخفي تحت دبيبها تحالفاً بين حلفاء من جهة وغرماء من جهة أخرى، تحالفات فرضها واقع سياسي جديد في السنوات الثماني الماضية، تخلص من القوى السياسية التقليدية، على مراحل متتالية منذ عام 2003، بمسارين متوازيين،
الأول يمثل القشة التي قصمت ظهر التيارات والقوى السياسية، باختراق نوعي - هذه المرة - لقياداتها عبر سياسة الجزرة والجزرة، مستفيدين من اختفاء جيل القيادات التقليدية، وصعود جيل قيادات المكاسب والمجد الشخصي.
والثاني، الانكفاء النخبوي والمصطنع والذي تم نفخه بالقيادات الصاعدة، رغم ضحالة تكوينها، وتراجع المواقف الوطنية والمبدئية لديها، واندفاعها للحصول على فتات موائد الصفقات، وقد تحقق ذلك بصورة كبيرة.
وتزامن ذلك مع استمرار الزعامات الفردية القديمة والجديدة، والتي لديها، مرونة، تماثل رشاقة الفراشة في التلون والتخفي والتظاهر بخلاف الحقيقة، حفاظاً على استمرارها وبقائها، وهو ما كان لتلك الزعامات، والتي حفظت استمرار حضورها السياسي، ودارت في فلك كل المراحل بتبديل لافت لردائها برشاقة، تحاكي متغيرات المشهد السياسي، فتارة تتشح بثوب المعارضة وثانية برداء الموالاة، وثالثة بملابس التخفي، ورابعة بالحكمة والتوفيق، وأحياناً بالضحية واليتيم، فكان لها ما أرادت.
وبعد انقضاء مرحلة البيات التكتيكي، الطوعي والقسري في آن واحد، بدأت تتوالى عودتها أو حضورها السياسي، بمن في ذلك من ظن الناس أنه اعتزل الحياة العامة والتنظير والتعبئة وفتح التفاهمات. وقد رصدتُ مبكراً في مقالات سابقة لي، تلك التبدلات، فمن كان يعتقد أو يعتبر الناس أنهم غرماء، في وقت ما، كان بادياً عودتهم حلفاء، خروجاً على كل التوقعات والتحليلات، والتي فات عليها نعومة الدبيب ورشاقة التلون لدى تلك الشخصيات! وجلي في كل ذلك أن البراغماتية السياسية هي النمط السياسي الذي، أثبت نجاحه، عبر استمرار شخصياته في كل مراحل العمل السياسي وخصوصاً منذ عام 1985.
فالغاية تبرر الوسيلة، هي التي تحكم وتسيّر تلك البراغماتية المفهومة، وقد استخدمت أدبيات وأطروحات ومصطلحات للتعبير عن رشاقة البراغماتية السياسية في الكويت ونعومة دبيبها، وكان آخرها ما أطلق عليه «السياسة فن الممكن»، ورغم صحة المبدأ وسلامة محتواه، فإنه استخدم ووظف توظيفاً رديئاً، فصار شماعة تبرر الميكيافيلية السياسية والبراغماتية المصلحية، وتبددت المصلحة العامة أدراج الرياح، وتطايرت أوراق المبادئ والقيم الوطنية والأخلاقية، في سبيل بلوغ الغاية، حتى ضاعت واختلطت كل الاعتبارات، وبدأت المجاهرة في تبني هذه التوجهات والتي تمثل ردة سياسية في العمل الوطني بل والبرلماني، وسيتفاقم توظيف هذا المسلك، فالمصلحة الخاصة وتحقيق المكاسب على حساب الوطن صارت هي الغاية،
وشحبت وجوهاً وشخصيات كنا نظن أن خطها الوطني لن يتبدل ولن تقبل المساومة عليه، فذهب رهاننا بشأنها أدراج الرياح. وفي نفس السياق ظهرت مصطلحات أخرى لتبرير فكر ومنطلقات الغاية تبرر الوسيلة، واستخدم مصطلح المصالحة الوطنية بشكل عكسي للغاية ذاتها، كما ظهرت لدينا مصطلحات تبادل الأدوار، وفقه المرحلة، والخاصرة الرخوة، والإصلاح من الداخل، والمرونة السياسية، جميعها لتبرر سلوكيات ومسارات الردة السياسية، وتظهر في ظلالها حالة من القفز للمشهد السياسي،
فغدا البقاء في هذا المشهد حتى لو كان من خلال أجهزة إنعاش الحس الوطني هو الديدن، وأضحى الحس الوطني والممارسات المرتبطة به من هذه الشخصيات وتحالفاتها المشبوهة والمتغيرة مظاهر مصطنعة ومركبة سرعان ما تكتشف زيفها، أمام قضايا وطنية لا تقبل المساومة.
ولذا، فإننا نقول ما أخطر الهلامية السياسية وتبريراتها!