الحياة تعجُّ بالمُنغصات والمكدرات وهي سريعة الزوال، ومما يزيد من كدرها ويعكر صفوها هذه الطبقة من البشر الذين نزلوا بأخلاقهم إلى أسفل السافلين، في مقابل القلة القليلة التي حملها حُسن الخلق على التأدب بآداب الشرع في أخلاقهم وسمتهم وهديهم، وتَميّزوا بوصف الوقار والسكينة والتواضع لله ثم لعباده، وإذا وُجه لهم خطاب أو انتقاد من الجهلة خاطبوهم خطاباً يسلمون به من مقابلة الجاهل بجهله، وهم مع ذلك إذا حصل لهم جلوس في مجلس اشتمل على أمر مُحرم مثل اللغو، فنجدهم يجتنبونه سواء كان في الأقوال أو الأفعال كالجدال بالباطل أو الغيبة والنميمة أو الاستهزاء بالناس وكشف أسرارهم وعوراتهم أو شرب الخمر ومجالس اللهو والغناء المحرم، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى أنَّهم لايقولونه ولا يفعلونه، كما أنّ شهادة الزور داخلة في قول الزور.
واللغو يكاد يكون هو الغالب اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة دينية ولا دنيوية.
فهؤلاء الكرام إذا حصل لهم مرور في هذه المجالس نزّهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيها، ورأوا أنّ الخوض فيها وإن كانَ لا إثمَ فيه فإنّه سَفَه ونقص للإنسانية والمروءة فنزّهوا أنفسهم عنها، كما أنّهم إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
وهذه صفة مدح كبيرة، هذا هو الحِلْم ومقابلة المُسيء بالإحسان والعفو دليل على رزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال، ولا يتكبرون على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره ، بل يعاملون الجميع بما تقتضيه طبائع نفوسهم الزكية، ولا يكلفونهم بما لا تسمح به طبائعهم، بل بما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق.
وهم مع هذا الإحسان تجدهم يستشعرون شدة حاجتهم إليه سبحانه في جميع أحوالهم في الدنيا، خصوصاً في يوم العرض عليه وهو يوم الحساب، وأنّهم ليس في طاقتهم احتمال العذاب.
كما أنّهم من جميل أوصافهم في الدنيا أنّهم إذا أنفقوا من أنواع النفقات، لا يزيدون عن الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة، ولم يُقتروا فيدخلوا قسم البخل والشُّح، وكانت نفقاتهم على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار، وهذا من عدلهم واقتصادهم في تدبير معايشهم.
هذا الوصف خالص لعباد الرحمن وهذا إضافة تشريف لهم بأنّ الله تعالى أضافهم لنفسه، وما أحوجنا لمثل هذا الصنف الذين تطيب بهم الحياة.
ومن صفات الكرام أنّهم إذا شعروا بوسوسة الشيطان لهم في تثبيطهم عن الخير أو حثّ على الشر، فإنّهم يتذكرون وعد الله ووعيده، فيستعيذون بالله ويحتمون بحِماه، والله تعالى يعلم صدقهم وضعفهم وقوة التجائهم إليه، فإنّه سيحميهم ويقيهم من وساوس الشيطان، ولمّا كان الكرام لابد أن تنالهم الغفلة أحياناً وينال منهم الشيطان الذي لايزال مرابطاً ينتظر منهم الغِرّة والغفلة، فإنّهم حينئذٍ إن شعروا بوخز الذنب في قلوبهم، سواء بفعل محرم أو ترك واجب، تذكروا من أيّ باب أتى هذا الشيطان، ومن أيّ مدخل دخل عليهم، فانبعثت في قلوبهم لوازم الإيمان، فأبصَروا واستدركوا ما فات بالتوبة والحسنات الماحية، وردّوا شيطانهم خاسئاً وهو حسير، وقد أفسدوا عليه كل ما أدركه منهم.
الخُلاصة:
سبب تخلفنا وزيادة مشاكلنا اليوم تَكلّم الرويبضة في أمور العامة، وإسناد التوجيه لمَن لم يتزكَّ بالإسلام، وانقلاب الموازين لدى النخب الفكرية.