تنسب الديكارتية للفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي اعتمد على العقل في تأسيس فلسفته. ويقوم منهجه على «البداهة»، أي التصور الذي يتولد في نفس سليمة منتبهة، وعلى الاستنباط: أي العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها بالضرورة. كما يستند المنهج الديكارتي إلى أربع قواعد:
التسليم بيقينية المبادئ التي تبدو للعقل بسيطة وواضحة، لا تثير أي شك. تقسيم كل مشكلة إلى أجزائها. الانتقال المنظم من المعروف والمبرهن عليه إلى المجهول، الذي يتطلب البرهان، وأخيرا عدم إغفال أي من مراحل البحث المنطقية.
ترتبط الديكارتية بالشك، فهو الأساس فيها، وهو الذي يقوم عليه التفكير العقلاني، كوسيلة للوصول إلى العلم.
ولأسباب تعود لطريقة نشأتنا وتعليمنا، ولا أستثني نفسي، فقد اعتدنا على تصديق أو التسليم بما نسمع ونرى، دون بحث وتمحيص أو شك! فالإكثار من السؤال، والفضول وطرح الأسئلة أمر مكروه اجتماعياً ودينياً. وبالتالي رفض واضعو مناهج المدارس تدريس التفكير النقدي Critical Thinking، لما تنطوي عليه المادة من خطورة قد تدفع الطالب لطرح أسئلة «غير مرغوبة»!
وكان الفيلسوف العربي طه حسين أول من أبحر في فلسفة ديكارت، وخرج علينا بكتابه العظيم في «الشعر الجاهلي»!
وبهذه المناسبة وصلني النص التالي، الذي لقي رواجاً وتصديقاً واسعين من مختلف شرائح المجتمع، دون استثناء لطبقة وشهادة وسن ومستوى فهم، حيث ورد فيه، بعد تصرف كبير، نظر لركاكته:
هذه هي قذارة فرنسا، الفضيحة الأبشع في القرن الحادي والعشرين!! مشهد غير إنساني وصادم لرجلين وامرأة يتبولان، بالتناوب، على طفل أفريقي في إحدى القرى الفرنسية، وهو عار تماماً، ومنكفئ بوجهه على الأرض، بينما جمهور الفرنسيين، الذين طالما صدّعت بلادهم رؤوسنا برقي حضارتها، يتفرجون، دون إبداء أي اكتراث، للفعل الإجرامي بحق الصبي المسكين!
وقعت هذه الجريمة، بعد أن قامت جمهورية مالي الأفريقية بطرد السفير الفرنسي، فقام الفرنسيون بالانتقام من ذلك بالقبض على طفل من «مالي» ونزع ملابسه والتبول عليه علناً.
إن على أفريقيا أن تستيقظ، وعلى العرب أن يستيقظوا، وعلى المسلمين أن يستيقظوا وهم يشاهدون الوجه القبيح لفرنسا.
***
انتابني الشك فورا، فلم أسمع، أخيراً، أن «مالي» طردت سفير فرنسا، ولا نقلت الأخبار تفاصيل العمل الإجرامي أعلاه، بكل ما تضمنه من بشاعة واحتقار للنفس البشرية! ولم أصدق للحظة أن الفرنسيين يمكن أن يقترفوا مثل هذا العمل الجبان، فهم، بخلاف الدول الغربية الأخرى، ولأسباب يطول شرحها، الأقل عنصرية، خاصة تجاه السود، مقارنة ببقية دول الغرب، وهذا ما يميزهم. وبعد البحث عن قصة الفيديو المسيء تبين التالي:
إن مشهد التبول لا علاقة له بإهانة طفل أفريقي، ولا بفرنسا ولا بالفرنسيين، ولا بسفيرها، الذي لم يطرد، بل هو جزء من عمل فني صادم قام بأدائه ممثلون برازيليون، تم تصويره في 17 يناير 2013، في ساو باولو، والجسد العاري هو للفنانة البرازيلية ريجينا خوسيه جاليندو، الذي تمت تغطيته بالكامل بمسحوق الفحم، احتجاجاً على الانتهاكات الإنسانية لجسد المرأة في صناعة استخراج الفحم في البرازيل، وسكوت الغالبية، بلا مبالاة واضحة، عن الإهانات التي تتعرض له أجساد النساء في بلادهن، وهو موضوع كان دائماً مصدر قلق للفنانة جاليندو، فعكسته في أعمالها الفنية.
***
تصديق غالبية من تلقوا تلك الرسالة، والإيمان الفوري بصحة حادثة تبول فرنسيينِ على طفل أفريقي، وسلبية الجمهور، هو بالضبط ما حذرنا مراراً منه، بعد أن ذقنا مرارة الغش! ونعود ونكرر تحذيرنا بضرورة توخي الحذر قبل تصديق أي شريط فيديو يحتوي على حدث مثير أو كلام خطير، فكل شيء قابل للتشويه والتغيير والتبديل، ولا بأس من الانتظار ليوم قبل إرسال الخبر، ولا بأس من الشك، أو بعض منه، في حقيقة ما تتلقفه أيدينا وأعيننا كل يوم من مواد، فلا أحد يمنحنا جوائز على ما نرسل لهم من فيديوهات!
أحمد الصراف