أطلق الرئيس أوباما مطلع شهر فبراير الماضي عقيدة «الصبر الاستراتيجي» كخريطة طريق للعامين الأخيرين من إدارته. وكنا انتقدنا في سلسلة مقالات في شهر فبراير الماضي هنا في «الاتحاد» تلك الاستراتيجية التي لم تحظَ بمتابعة وتعليق رسمي من بعض المراكز البحثية والأكاديمية العربية، وخاصة لخطورة تلك الاستراتيجية على أمن واستقرار منطقتنا التي دفعت أثماناً باهظة بسبب رهانات وأخطاء وتردد الإدارة الأميركية، وغياب استراتيجية ومشروع عربي جامع.
وكما أوضحت هنا في مقال «عقيدة الفشل الاستراتيجي» فإن تلك الاستراتيجية هي «نسخة منقحة من عقيدة أوباما القديمة المتمثلة في رفع اليد، والقيادة من الخلف، وعدم ارتكاب حماقات في السياسة الخارجية، وتجنب شن حروب»
بالإضافة إلى التردد وعدم الحسم وتراكم الأخطاء. ونقطة ضعف تلك الاستراتيجية من وجهة نظر الحلفاء تكمن في تراجع الثقة في التزام واشنطن بالدفاع عن حلفائها. ويدعم ذلك رفع يد أميركا، وتعزيز موقف خصوم حلفائها وتمددهم سواء كانوا دولًا كإيران، أو تنظيمات كـ«داعش» والحوثيين و«حزب الله» وغيرهم، ما يشكل تهديداً وجودياً وأمنياً لحلفاء واشنطن في المنطقة العربية.
ولكن الظاهرة الأكثر غرابة واستفزازاً لحلفاء واشنطن في المنطقة وخارجها هو كيف تُسهم «استراتيجية الصبر» التي ستتبعها إدارة أوباما خلال العامين المتبقيين من إدارته في البيت الأبيض في تودد واشنطن ومحاباتها لخصوم حلفائها، كحال إدارة أوباما اليوم مع إيران، العدو العقائدي والاستراتيجي لواشنطن، حيث تراجعت الخلافات العقائدية والتاريخية وتم رفع إيران و«حزب الله» من قائمة الدول التي تهدد الولايات المتحدة، للمرة الأولى منذ الثورة الإيرانية عام 1979.
كما تعول واشنطن أيضاً على إيران في محاربة التطرف وتهديد جماعات الإرهاب مثل تنظيم «داعش». والانغماس الكلي في سعي محموم للتوصل لاتفاق إطار مع نهاية مارس 2015 تمهيداً للتوصل لاتفاق نهائي يجمد برنامج إيران النووي لمدة عشر سنوات، ويحدد أجهزة تخصيب اليورانيوم بـ6 آلاف جهاز طرد مركزي
وما هو لافت ومثير للاستغراب في ظل هذه التنازلات الأميركية المستمرة في سبيل تقديم الحوافز لإيران هو عدم مواجهة واستهداف حلفاء وأذرع إيران في المنطقة كالحرس الثوري و«حزب الله» والحوثيين والمليشيات الشيعية العراقية التي تقوم بارتكاب عمليات انتقامية تؤدي إلى مزيد من الشرخ في العلاقات بين السنة والشيعة في العراق
ما سينعكس سلباً على سير الحملة ضد تنظيم «داعش»، وخاصة في تكريت والموصل، حيث ترى أميركا وحلفاؤها في التحالف الدولي أنه لا يمكن هزيمة «داعش» دون استمالة السنة في العراق وخاصة العشائر السنية للقتال ضد هذا التنظيم الإرهابي.
ولكن كيف تقنع السنة بمواجهة «داعش»، وهم يتم استهدافهم وسط صمت أميركي ينسف تلك الاستراتيجية، وخاصة بعد اتهامات قوية من منظمة «هيومن رايتس ووتش» لقوات الأمن العراقية والمليشيات الطائفية والحشد الشعبي التي تشارك في العمليات العسكرية في تكريت في محافظة صلاح الدين، وقبلها في أميرلي، بارتكاب عمليات تدمير وحرق بلدات سنية، وتدمير ممتلكات مدنية في محافظة صلاح الدين.
وقد طلبت منظمة «هيومن رايتس ووتش» من الحكومة العراقية وقوات التحالف الدولي وإيران منع تلك الانتهاكات من جانب الجهات التي تحارب تنظيم «داعش». فيما اكتفت قيادات عسكرية وسياسية أميركية بالتعبير عن قلقها من تحول المواجهات إلى انتقام وحرب طائفية تؤثر على الحملة العسكرية ضد «داعش» دون التطرق إلى خطورة أجواء الانتقام المذهبي على مستقبل العلاقة بين مكونات المجتمع العراقي المنقسم عمودياً.
ولكن الموقف الأميركي الأكثر ابتعاداً من حلفاء واشنطن في المنطقة والأكثر اقتراباً من الموقف الإيراني هو في الأزمة السورية، بعد أن دخلت الثورة وحروب سوريا المتعددة عامها الخامس، وأزهقت حياة ربع مليون قتيل، ومليون جريح، وتحويل نصف الشعب السوري ما بين لاجئ ونازح ومهجّر فيما صار يسمى بحق مأساة العصر.
ولذلك كان تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري صادماً وخاصة كلامه عن الحاجة في النهاية للتفاوض مع الأسد للتوصل إلى حل سياسي للأزمة في سوريا! ما يُعد تبنياً من واشنطن للموقف الإيراني الذي استثمر المال والأرواح والعتاد في نظام الأسد لسنوات، مقابل الابتعاد عن موقف الحلفاء الخليجيين والأتراك. وسرعان ما جاء الرد قاسياً ورافضا لبالون اختبار «كيري»، وخاصة من فرنسا وبريطانيا وتركيا، وقد وصف رئيس وزراء تركيا أحمد داود أوغلو، ذلك بأنه أشبه بمصافحة هتلر وميلوسوفيتش وصدام حسين. وسرعان ما طمأن البيت الأبيض الحلفاء الغاضبين ساعياً لرأب الصدع بالتأكيد أنه «لا دور للأسد في مستقبل سوريا»!
واضح إذن أن عقيدة «الصبر الاستراتيجي» لدى إدارة أوباما تقود للفوضى. وقد جعلت من إيران اللاعب الأكثر نفوذاً وتمدداً وتهديداً لحلفاء واشنطن. ويحتفل أوباما في البيت الأبيض بعيد النيروز الفارسي ويخاطب الشعب الإيراني! وبعد سبعة أشهر من قصف «داعش» والتنظيمات المتشددة المتواصل، لا تزال تضرب في عمليات إرهابية في بلاد الشام، ومن تونس إلى اليمن.
وعاد أيضاً نتنياهو ليعربد وينسف رؤية أوباما بحل الدولتين، ويهدد بلاءاته وأولها: لا لدولة فلسطينية. وكذلك يتمرد الكونجرس على رئيسه!
وفي المجمل فعقيدة الصبر الاستراتيجي تستنزف المنطقة، وتقلِق، ولا تطمئن، ولا توفر الحماية للحلفاء، ولا تردع الخصوم أيضاً، ما يعمق الفوضى في شرق أوسط يزداد عنفاً وتفككاً. وهذه هي قمة الفشل الاستراتيجي!
رئيس قسم العلوم السياسية - جامعة الكويت
د. عبد الله خليفة الشايجي