من يتابع المشهد العربي الراهن سيرى حالاً صعباً يزداد مع كل يوم جديد ارتباكاً وتعقيداً بصراعاته وحروبه ومآسيه، مع تفاقم الأوضاع في غزة جراء عدوان إسرائيل، وما يقع من اشتباكات في لبنان مع «داعش» و«النصرة» واحتلال مدينة عرسال اللبنانية على حدود سوريا، وتفاقم خطر تنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف باسم «داعش»، ودخوله في مواجهة مع الأكراد، واستهداف المسيحيين والأقليات كالإيزيديين في شمال العراق.
وعودة أميركا مضطرة للتدخل بقصف بسلاح الطيران لمواقع «داعش». ولعل التدخل الأميركي يفضح استقالة واشنطن من دور الزعامة، وإخفاقها في التدخل المبكر في سوريا مثلاً قبل تفاقم الأزمة. وبسرعة يكتمل هذا المشهد الدموي العارم في المنطقة ليذكرنا من جديد بالبيت العربي القديم: «تكاثرت الظباء على خِراش.. فما يدري خِراش ما يصيد»!
وقد كان شهر يوليو بشكل خاص شهراً مؤلماً ومخضباً بالدماء والآلام والمجازر ومشاهد الدمار.. وعلى رغم حلول شهر رمضان المبارك وعيد الفطر السعيد فيه، إلا أن ذلك لم يكن مانعاً أو عائقاً أمام استمرار حمامات الدم وانتشار الفوضى والموت والدمار في بؤر نازفة عديدة من المنطقة.
والآن، هل نبكي حوالي 1900 شهيد في غزة في شهر؟ أم نبكي 1737 شهيداً في العراق؟ أم نبكي على أكثر منهم في سوريا؟ هذا هو المشهد العربي في هذا الصيف اللاهب وقد شهد وضعاً مأساوياً مخضباً بالدماء من ليبيا التي تتفكك وتتفتت وتغلق فيها السفارات ويفر منها الدبلوماسيون والأجانب وحتى الليبيون أنفسهم.. مع سقوط مئات القتلى والجرحى وتدهور أحوال البلاد إلى حافة الانفجار والتشظي.. إلى الجزائر وسقوط طائرة ركاب أخرى في أسوأ عام لحوادث الطيران حول العالم منذ سنوات.. حيث سقطت في الأسبوع الأخير من شهر يوليو ثلاث طائرات، بالإضافة إلى اختفاء طائرة الركاب الماليزية اللغز في المحيط الهندي.. في شهر مارس الماضي أيضاً.
وفي مصر التي احتفلت بذكرى ثورة 1952 وسط عمليات إرهابية واحتقان وأصداء حرب إسرائيل على غزة، تبقى الوساطة المصرية هي الترياق الوحيد الذي يلتف حوله الجميع ويأمل في نجاحه لوقف العدوان الإسرائيلي على القطاع. وعلى رغم تقديم وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ومعه قطر وتركيا، مبادرة ومحاولة توسط، إلا أن المبادرة المصرية كما يراها كثيرون هي الوحيدة التي يمكن أن تكون المرجعية لوقف حمام الدم في غزة.
والراهن أن ما يجري هذا الصيف في المشهد العربي من شمال أفريقيا إلى اليمن يحز في النفس، ويزيد من حجم التشاؤم واليأس، ويرفع من مؤشر الفوضى وعدم الاستقرار، خاصة أننا عشنا شهر رمضان، شهر المغفرة والطاعات، ومعه العيد، ونحن في أوضاع نفسية صعبة ومؤلمة لهول ما شاهدناه من قصف يومي ومن مجازر وجثث وأشلاء في أكثر من دولة عربية. فمن حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل وآلة الموت على قطاع غزة حيث يقترب عدد شهداء عدوانها من 1900 شهيد، و10000 آلاف جريح، أكثر من 90% منهم من المدنيين، في عملية «الجرف الصامد» أو كما تسميها «حماس» من جهتها «العصف المأكول»، لتستمر المجازر بواقع شبه يومي في الشجاعية وخزاعة ورفح وغيرها.. هذا مع قصف المدارس التابعة للوكالة الدولية لوكالة غوث اللاجئين «الأونروا»، وهي جريمة حرب بامتياز دفعت «كريس غانييس» المسؤول الإعلامي للوكالة إلى أن يجهش بالبكاء ألماً، لما شاهده من أشلاء ومناظر فظيعة لجثث وأشلاء بشرية معظمها لنساء وأطفال كانوا يحتمون بالمدرسة.
وحسب صحيفة «نيويورك تايمز» فقد شنت إسرائيل حتى 31 يوليو 3754 غارة، واستهدفت بالطيران والقصف المدفعي والصاروخي ومن البوارج الحربية قطاع غزة كله بما فيه من مناطق سكنية ومنازل وملاجئ ومدارس ومساجد ومستشفيات. وفي المقابل أطلقت الفصائل الفلسطينية بما فيها «حماس» 2848 صاروخاً وقذيفة على أهداف داخل إسرائيل، وأطلقت خاصة صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى على وسط وجنوب إسرائيل، وأخرى بعيدة المدى وصلت إلى تل أبيب على بعد 80 كلم من غزة وحيفا على بعد 160 كلم، ومطار بن غوريون، وقتل 67 إسرائيلياً، منهم 64 عسكرياً.
ولعل ما يميز هذه الحرب هو نقل أجوائها ومعاناتها لداخل إسرائيل، ووضع حوالي 90% من سكانها في مجال الصواريخ، وتكبيد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر فادحة، وقد تم لأول مرة إغلاق مطار بن غوريون لأيام، والأهم تغيير عقيدة إسرائيل القتالية من حروب مفاجئة واستباقية وخاطفة وسريعة في أرض الخصم إلى حرب طويلة ومكلفة طالت العمق الإسرائيلي.. وتتحول إلى حرب استنزاف لإسرائيل، وتزيد أيضاً من الكراهية لليهود في العالم كما هي الحال في أوروبا مثلاً، بسبب الجرائم والمجازر التي ترتكب ويغطيها الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي التي تساهم في فضح حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.. إلى درجة أن تسريباً لمكالمة بين أوباما ونتنياهو كان واضحاً فيه الغضب والانزعاج من التجاوزات الإسرائيلية التي وصلت إلى حد قصف مدارس تابعة للأمم المتحدة تديرها «الأونروا».
وكذلك انتقدت «نافي بيلاي» مفوضة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إسرائيل بشدة الجرائم التي ترتكبها، داعية إلى إجراء تحقيق بشأن جرائم حرب قد تكون إسرائيل ارتكبتها، وإلى رصد قائمة بـ«الانتهاكات والجرائم المرتكبة» و«تحديد هوية المسؤولين» عنها، من أجل محاكمتهم «ووضع حد لإفلاتهم من العقاب». وكذلك عبرت «فاليري أموس» وكيلة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ومنسقة الإغاثة الطارئة، عن قلقها من تزايد العنف وتردي الأوضاع الأمنية والإنسانية في قطاع غزة منددة بقصف مدارس تابعة للأمم المتحدة هناك.. وبدورها طالبت منظمات حقوقية أخرى بإجراء تحقيق حول خرق حقوق الإنسان ومحاكمة إسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة.
وفي الموقف العربي برز الموقف الخليجي بشكل ملفت من تنديد خادم الحرمين الشريفين بالمجازر التي تقترفها إسرائيل، إلى الموقف الكويتي أيضاً الذي استنكر جرائم حرب إسرائيل. ودعت الكويت بصفتها ترأس دورة مجلس التعاون الخليجي ودورة جامعة الدول العربية لهذا العام، الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» أثناء لقاء وزير الخارجية الكويتي معه، لحثّ المجتمع الدولي على وضع حدّ للعدوان الإسرائيلي ضدّ قطاع غزة. وجدّد «موقف دولة الكويت الثابت إلى جانب الشعب الفلسطيني الشقيق وإدانة كافة الأعمال العدوانية الإسرائيلية التي يتعرّض لها في قطاع غزة».
وتميز الموقف الإماراتي أيضاً وقد أشاد «بيير كرينبول» المفوض العام لوكالة «الأونروا» بدعم دولة الإمارات العربية المتحدة والمساعدات الإنسانية التي تقدمها لقطاع غزة، حيث قدمت الإمارات بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، 40 مليون دولار لوكالة «الأونروا». وكذلك تسيّر جسراً جوياً إماراتياً لتقديم المساعدات الإنسانية والطبية للمتضررين من سكان قطاع غزة.
وكذلك لعبت قطر دور الوسيط بين «حماس» والأطراف المفاوضة للتوصل لحل يوقف دوامة العنف وحرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل، وكذلك اتصال أمير دولة قطر بالأمين العام للأمم المتحدة وحثه على لعب دور بناء، وعدم الانحياز في مواقف الأمم المتحدة تجاه طرفي الصراع.
وفي المجمل، فالمشهد العربي مؤلم وبلا توازن. ولن تقوم للعرب قائمة، ما لم يكن هناك إجماع عربي على مشروع إقليمي جامع ومقبول يحصّن العرب أنظمة وشعوباً ضد أي استهداف، ويتصدى للمشاريع الإقليمية الأخرى، والخصوم من دول ومن لاعبين من غير الدول أيضاً!