كتبت في الصيف الماضي سلسلة مقالات عن تصاعد تأثير ودور «الفاعلين من غير الدول»، وهذا ما تؤكده الدراسات المستقبلية لمجلس الاستخبارات الوطنية الأميركية الذي يضم تحت مظلته 16 جهاز استخبارات على مختلف المستويات والتخصصات، ويستشرف المجلس في تقاريره الظواهر والتحولات المستقبلية. وقد استنتج تقريران، نشرا في عامي 2008 و2012 بعد فوز أوباما بالرئاسة، أن من أبرز المتغيرات في المستقبل صعود نجم وتأثير «الفاعلين من غير الدول». ونحن نعيش اليوم عصر هذا النوع من الفاعلين حيث يتفاقم خطرهم وتأثيرهم. وللتذكير فقط.. فمن اهتم أصلاً بـ«داعش» والحوثيين قبل عام، من الآن؟! ومع هذا أصبحنا الآن بين «داعش» شمالاً والحوثيين جنوباً!
ولذا تبدو دول مجلس التعاون في وضع أمني ضاغط ومهدد للاستقرار في واحد من أهم الأنظمة الإقليمية في النظام الدولي ككل. ويبرز هذا التهديد من دول كإيران بمشروعها وأهدافها وخططها وحلفائها الإقليميين، وغير دول كحالة الحوثيين في اليمن بعد احتلالهم للعاصمة صنعاء، التي رأينا سقوطها السريع والمفاجئ على يد مليشيات مسلحة موالية لإيران وسط ذهول وصمت إقليمي ودولي، لتصبح بذلك هي العاصمة العربية الرابعة التي تقع تحت النفوذ الإيراني! وهي أول عاصمة في شبه الجزيرة العربية تقع بيد حلفاء طهران، لينضم اليمن بذلك إلى العراق الذي تعتبر إيران فيه هي اللاعب الأكثر نفوذاً وحضوراً. بل إن نفوذها يمتد إلى البحر المتوسط بحسب ما تفاخر بعض المسؤولين الإيرانيين وآخرهم علي شمخاني وزير الدفاع الأسبق، الذي أعلن من بيروت في الأسبوع الماضي تقديم منحة عسكرية للجيش اللبناني لينافس بذلك الدعم العربي للبنان في ما يشبه حرباً باردة بين الطرفين. وكان النفوذ الإيراني قد تكرس أيضاً في سوريا، وفي لبنان من خلال «حزب الله»، وكذلك بمحاولة التقرب من الجيش وهو المؤسسة اللبنانية الأقل فشلاً والأكثر إجماعاً عليها من بين المؤسسات السيادية هناك.
وفي الصيف الماضي وبالتحديد في 10 يونيو 2014 تمكن تنظيم «داعش» من اختراق الحدود العراقية، وإلغائها لاحقاً، مسقطاً خريطة «سايكس- بيكو» التي وضعت قبل قرن من الزمن، ثم تمكن من احتلال الموصل ثاني أكبر مدن العراق إثر تبخر وهزيمة 3 فرق عسكرية عراقية -مع فرقة شرطة- في فضيحة عسكرية غير مسبوقة، وأعلن عن تنصيب المدعو أبوبكر البغدادي «أميراً للمسلمين»! وهو أسير حرب سابق لدى الاحتلال الأميركي! ومنذ ذلك الوقت تفاقم خطر التنظيم الإرهابي، وازداد تهديده وتجنيده لآلاف المقاتلين العرب والمسلمين والغربيين، ليتجاوز عددهم 30 ألف مقاتل حسب الاستخبارات الأميركية، ليصبح بذلك أكثر خطراً ونفوذاً وتمدداً على الأرض بمساحة أكبر من بريطانيا، كما أنه هو أغنى تنظيم إرهابي الآن باحتلاله لآبار ومنشآت نفطية في سوريا والعراق.
وفي ضوء هذا التحدي الجديد اضطر الرئيس أوباما للتخلي، وإن بتردد، عن عقيدته السابقة القاضية بعدم استخدام القوة، ليلجأ أخيراً إلى استخدامها انتقائياً، بقصف جوي وإنزال شحنات غذاء ودواء وماء، ثم تكثيف قصف مواقع «داعش» بعد أن اقتربت من أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق.. وقد نجح في طرد التنظيم من سد الموصل، وفرض تراجعه في جبل «سنجار» أمام تقدم الأكراد بعد تمهيد وقصف المقاتلات الأميركية منذ 10 أغسطس الماضي. وانضمت فرنسا للتحالف قبل فتح جبهة التنظيم في معقله القوي في سوريا مع قوات التحالف الدولي بمشاركة دول خليجية تقوم بعمليات قصف وغارات جوية في سوريا والعراق منذ 23 سبتمبر 2014. ولا يشارك في قصف مواقع «داعش» في شمال وشرق سوريا مع القوات الأميركية سوى الحلفاء العرب، بينما لا يشارك حلفاء واشنطن في حلف «الناتو» بالقصف في سوريا! حيث تستهدف الغارات مواقع عسكرية ومراكز السيطرة والقيادة والمخازن والمعدات ولاحقاً المنشآت النفطية لتجفيف مصادر الدخل لتنظيم «داعش». وكانت آخر هزائم عناصر «داعش» هي انسحابهم من أهم معبر حدودي بين العراق وسوريا بعد سيطرة قوات البشمركة الكردية على معبر اليعربية العراقي وربيعة في الجانب السوري، وهي خسارة استراتيجية كبيرة لتنظيم «داعش»، خاصة بعد انضمام بريطانيا وتركيا للتحالف، حيث تسعى تركيا لإنشاء منطقة جوية، وربما حتى برية عازلة داخل سوريا.
ولكن هذه الانتصارات العسكرية ما زالت بحاجة لبلورة سياسة على الأرض لدمج المكون السني في سوريا والعراق في هذه الاستراتيجية. ويبقى النقاش في واشنطن ولندن مؤكداً أن هذه العملية في بدايتها، ولن تكون سريعة وسهلة، وستستغرق سنوات من العمل العسكري والتدريب والتأهيل للقوات المسلحة والمعارضة المعتدلة السورية تدريباً وتأهيلاً وتسليحاً. وكذلك تأهيل وتسليح الجيش العراقي وقوات البشمركة الكردية لتقاتل على الأرض لدحر تنظيم «داعش». ولكن تفتقد الجهود الدولية في مواجهة «داعش» البعد السياسي في إقناع السنة في العراق الذين قد ينظرون للتنظيم -على رغم خلافاتهم مع إيديولوجيته وعقيدته وتصرفاته- كحليف مصلحي يمكن أن يعزز مكاسبهم في العراق، ولذا فهم بحاجة إلى حوافز للانضمام إلى ما يشبه «الصحوات» إبان الاحتلال الأميركي في الأنبار عندما واجهوا «القاعدة».
والمعارضة المعتدلة في سوريا بحاجة لطمأنتها هي أيضاً على أن استراتيجية ضرب «داعش» وتدميره لن تقوي مستقبلاً من قدرات النظام السوري العدو الرئيسي للمعارضة السورية. ومكمن التباين الكبير هنا أن الولايات المتحدة ترى اليوم أن «داعش» هي الخطر الأكبر على مصالحها، وعلى الأمن في المنطقة وليس النظام السوري الذي لا يهدد المصالح الأميركية. بينما لا تتفق المعارضة السورية مع الرؤية الأميركية، وخاصة إذا أصرت إدارة أوباما على عدم إرسال قوات برية كما يفضل القادة العسكريون وحتى القيادات في الحزب الجمهوري الأميركي وعلى رأسهم «جون بينر» رئيس مجلس النواب الأميركي.
وهكذا تجد دول مجلس التعاون الخليجي نفسها في وضع إقليمي صعب وضاغط، وهي بين فكي كماشة، في الشمال هناك الفوضى التي يسببها تنظيم «داعش»، حيث تلعب دول المجلس دوراً محورياً في التحالف الإقليمي والدولي الرامي لاحتوائه وإضعافه، والمشاركة بالغارات الجوية ضد التنظيم في العراق وسوريا بعكس بعض حلفاء واشنطن الآخرين. وهذا يوسع دور وتأثير دول مجلس التعاون في المنطقة خارج إقليم الخليج، في نقلة نوعية كبيرة لدول المجلس وللعلاقة الاستراتيجية مع واشنطن التي تقدر هذا الموقف الخليجي، وتعرف أن دول المجلس شريك يمكن التعاون معه لحل المشاكل ومواجهة التهديدات الإقليمية وهو أمر ربما لم يكن قائماً سابقاً. وهذا يضعف الدور الإيراني الذي يقدم نفسه على الدوام كقوة إقليمية مؤثرة، وكمفتاح لحل مشاكل المنطقة.. ولكن هناك أيضاً خطر وتهديد الحوثيين في اليمن، جنوب دول مجلس التعاون الخليجي، الذين يحكمون سيطرتهم على صنعاء ما يشكل، في المقابل، صعوداً للنفوذ الإيراني وخاصة إذا تمددوا وسيطروا على الموانئ التي يمكن من خلالها تزويدهم بالسلاح دون عوائق.
ولكن التحدي الآخر المهم لدول المجلس هو المشاركة في حرب مفتوحة ضد الإرهاب وضد تنظيم «داعش» قد تستغرق سنوات في سوريا والعراق، وهذا الدور على رغم تشكيله رافعة للنفوذ والحضور الخليجي في الملفات الإقليمية، إلا أنه قد يستنزف دول الخليج أيضاً في مساعدة دول باتت تصنف «فاشلة» أو «مفككة» بكيفية تفقد الحكومتين فيهما القدرة على الإمساك بزمام الأمور وسط تردي الأوضاع على جميع المستويات. وهذه الصفات تنطبق أيضاً على اليمن الذي بات دولة مفككة وهشة وفاشلة. ما يهدد أمن واستقرار دول المجلس بشكل غير مسبوق. وبمناسبة عيد الأضحى المبارك، كل عام والجميع بخير وعيدكم مبارك!