استنتجت في مقالي السابق في «الاتحاد» تحت عنوان: «أميركا وإيران.. مهادنة أم مداهنة؟» أن ما نعيشه اليوم يبدو مهادنة وتودداً بين الطرفين، والترويج لإيران بمخالب لا تراها واشنطن ونراها رؤي العين، وذلك لتحقيق مصالح مشتركة ولو على حساب حلفاء واشنطن! أتى كيري رئيس الدبلوماسية الأميركية إلى سويسرا وبعد اجتماعات مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، جاء واجتمع مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وعقد مؤتمراً صحفياً مع وزير الخارجية السعودي ليقدم ضمانات، وليُطمئن الحلفاء القلقين من تداعيات الاتفاق النووي مع إيران على أمنهم، ومن سلوك طهران وزعزعتها للأمن في المنطقة، كما تحدث عن العلاقة الاستراتيجية مع دول الخليج. ولكن ما نراه عكس الوعود. فإدارة الرئيس أوباما تولي جل اهتمامها وأولويتها للاتفاق النووي، وتؤجل وتعلق أي موقف أو قرار يستفز إيران وحلفاءها من اليمن إلى سوريا، ومن العراق إلى بيروت من أجل الاتفاق النووي القادم.
لم يكن كيري مقنعاً في المؤتمر الصحفي مع وزير الخارجية السعودي في الرياض في جمع الصيف والشتاء تحت سقف واحد، بسبب تناقض التحالف المصلحي بين واشنطن وطهران من جهة، ووعود محورية واستراتيجية التحالف مع دول الخليج من جهة ثانية. ولذلك لم يقنعنا كيري بأن واشنطن «لن تغفل عن تحركات إيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن». وأنه لن يتغير شيء في علاقة واشنطن مع دول الخليج بعد التوقيع على اتفاق إيران النووي. «وسنتخذ إجراءات لضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي، لأننا سنغلق كل الأبواب لمنعها من تحقيق ذلك».
كما كان مغايراً للواقع الذي تشهده المنطقة، تأكيد كيري أن الاتفاق النووي مع إيران سيخدم أمن المنطقة ويجعلها أكثر أمناً وليس العكس! فكيف نصدق ذلك؟ وماذا عن النفوذ وإطلاق اليد الطولى لطهران ورفع العقوبات و«الصفقة الكبرى» المتوقعة على حسابنا وأمننا؟
على رغم خطاب التحدي المسرحي والمستفز من نتنياهو أمام أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الذين صفقوا وهللوا له وقاطعوه حوالي 40 مرة، (أكثر مما فعلوا لأوباما في خطاب «حالة الاتحاد») إلا أنني قد أتفق مع جزئية من خطابه حول التحذير من خطر المشروع والتمدد والنفوذ الإيراني، وخاصة تأكيده أن «إيران اليوم تحتل أربع عواصم عربية (هذا ليس رأي نتنياهو فقط، ولكن المسؤولين الإيرانيين يفاخرون بذلك) هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وإيران تحت العقوبات. فماذا ستفعل إيران إذا رُفعت عنها العقوبات وأصبحت دولة نووية؟!» طبعاً منطق نتنياهو حق يُراد به باطل. ولكن هذا واقع مؤلم وصحيح.
لم يُطمئنا كيري بكلامه المعسول أن «إيران دولة ترعى الإرهاب، وأن الاتفاق سيضمن سلمية برنامجها النووي، وأن الخليجيين سيكونون في وضع أفضل باتفاق إيران النووي».. كيف يمكن ذلك والتفاهمات والتخادم الأميركي- الإيراني يشهد عصره الذهبي؟ وقد سكب وزير الخارجية السعودي، وكيري إلى جانبه، ماءً بارداً على التحالف غير المعلن بين واشنطن وطهران بتذكير الوزير الأميركي وباللغة الإنجليزية «أن إيران تحتل العراق، وتشجع الإرهاب، وهي جزء من المشكلة». وقبلها وصف الأمير سعود الفيصل إيران بأنها قوة احتلال في سوريا.
كما كان لافتاً في اليوم ذاته الذي كان كيري يطمئن فيه دول الخليج على أمنها، وعدم الخشية من الاتفاق النووي مع طهران، وأن واشنطن «تراقب وتتابع تحركات إيران المهددة للاستقرار في المنطقة»، نشر تحليل رئيسي في الصفحة الأولى لصحيفة «نيويورك تايمز» يدحض ويناقض تطمينات كيري ويفضح التعاون بين أميركا وإيران! وأتمنى أن تعلق إدارة أوباما على ذلك التحليل الواقعي في «نيويورك تايمز» الذي يتحدث عن اعتماد استراتيجية أميركا في العراق على إيران! في حربها على الإرهاب والتكفيريين وواجهتهم «داعش» في حرب ستتجاوز 3 سنوات كما قال وزير الدفاع الأميركي الجديد! وكيف يُعقل أن تعتمد أميركا على إيران التي تصنفها تقارير الخارجية الأميركية منذ 35 عاماً على أنها الراعي الأول للإرهاب؟ كما لم يكن مقنعاً أيضاً تأكيد كيري لنظرائه الخليجيين في الرياض أن أميركا لن تصرف نظرها عن سياسة إيران في المنطقة، وخاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن!
والراهن أن أفعال واشنطن تناقض أقوال كيري، وخاصة في العراق. إذ بضوء أخضر أميركي أصبحت إيران حليفاً غير معلن في التحالف الإقليمي ضد «داعش». وتشارك قوات الحرس الثوري الإيراني المصنفة منظمة إرهابية من قبل واشنطن، وبإشراف قاسم سليماني في معارك صلاح الدين وتكريت! وقد استخدم سعود الفيصل دور إيران في تكريت ليعبر عن القلق مما تقوم به إيران. واضح التضليل السياسي والتنسيق والتخادم بين «الشيطان الأكبر» و«الراعي الأول للإرهاب»!
في عهد أوباما صارت إيران حليفاً غير مُشهر ورأس حربة مع حلفائها من الخليج إلى مضيق باب المندب، ومن اليمن إلى البحر المتوسط، في توسع لنفوذ وحضور ومشروع إيران بغطاء أميركي -تحت يافطة الحرب على الإرهاب! وحتى يناير 2016، مع انتهاء ولاية أوباما الأخيرة، ربما سنشهد المزيد من عجائب وغرائب عقيدة الصبر الاستراتيجي للرئيس المتناقض أوباما!