منذ البداية لم يكن برنامج إيران النووي هدفاً بقدر ما كان ولا يزال غاية تتكسب منها طهران لتعزيز رصيدها ورفع شأنها وللاحتكاك بالكبار مع استعدادها ببراغماتية لمقايضة النووي إذا كان المقابل مرْضياً ومقبولاً ويعزز من مكانة النظام ويحميه من الاستهداف، ويدعم وجود وحضور إيران كدولة مركزية في إقليم دائم الاضطراب. وتوظف إيران أوراقها بذكاء ودهاء عن طريق حلفائها وأذرعها في المنطقة لتزيد من مكانتها وحضورها ولدعم تمدد مشروعها.
وقد ذُهلت إيران من نجاح السعودية في جمع تحالف غير مسبوق وقيادته في عملية «عاصفة الحزم»، وشن عمليات عسكرية ضد منطقة فيها نفوذ لإيران، وكانت الضربة موجهة للحوثيين بقدر ما كانت موجهة لإيران وأذرعها في المنطقة. كما أن فشل إيران في السيطرة على تكريت مع حلفائها العراقيين من القوات و«الحشد الشعبي» دون تدخل سلاح الطيران الأميركي، تزامن مع سقوط بصرى الشام وإدلب من حليفها في سوريا. وكذلك أيضاً كان من المؤثر قرار الجامعة العربية تشكيل قوات عربية مشتركة. وجاءت التنازلات التي قدمتها طهران، في مفاوضات النووي في لوزان الأسبوع الماضي للقوى الكبرى، وبشكل غير متوقع كما قال وزير الخارجية البريطاني، وساهم ذلك في تحجيم إيران وإن كان المسؤولون الإيرانيون يقولون إنهم حققوا مكاسب، ولم يشيروا للتنازلات في خطاب يهدف لرفع معنويات الداخل الإيراني النازف، الذي سدد فاتورة كبيرة خلال العقد الماضي من الحصار والعقوبات. ولذلك استقبل الشعب الإيراني اتفاق الإطار بفرح واحتفالات في الشوارع واستقبل وزير الخارجية محمد ظريف الذي قاد فريق التفاوض الإيراني مع القوى الكبرى استقبالاً إيجابياً.
وقد سارعت القوى الكبرى وإيران، بعد التوصل لاتفاق إطار مساء 2 أبريل حول برنامج طهران النووي، للترويج أنه اتفاق تاريخي (أوباما وروحاني) واتفاق جيد (كيرى وظريف)! وأن إيران لم تقدم تنازلات بل حققت انتصاراً، وأن وضع الإيرانيين الاقتصادي سيتحسن كما أكد الرئيس روحاني يوم الجمعة الماضي في خطاب بنبرة انتصار موجّه للشعب الإيراني. والواقع أن اتفاق الإطار النووي يعكس حزمة الجزر والحوافز والعصي والتهديدات، ما قاد لمعادلة ربح- ربح وليس معادلة صفرية.
ولكن الواقع أن كلا الطرفين لم ينتصرا بقدر ما حققا مكاسب، مقابل تقديم تنازلات غير مسبوقة، وخاصة الطرف الإيراني. وذلك بعد مفاوضات جرت بلا هوادة دامت لفترة 18 شهراً متواصلة من اللقاءات السرية إلى العلنية الماراثونية للتوصل لاختراق يرضي الطرفين، ويجمد برنامج إيران النووي، ويقطع الطريق كلياً أمامها ويمنعها من الحصول على السلاح النووي ويحوّل برنامجها إلى برنامج سلمي، ويوقف إنتاج البلوتونيوم، ويخفض تخصيب اليورانيوم بنسبة 3,67% بدلاً من 20%، لمدة 15 عاماً! ويخفض الاتفاق أيضاً عدد وحدات الطرد المركزي من 19 ألف وحدة إلى 6 آلاف في منشأة «نتانز». وكذلك يوقف تخصيب اليورانيوم في منشأة «فوردو» المهمة.
مع تغيير طبيعة عمل منشأة «أراك» للماء الثقيل التي تصنع البلوتونيوم، المادة الرئيسية لصناعة القنبلة النووية، لمدة 15 عاماً! ومقابل هذا تُرفع العقوبات بشكل متدرج وليس فورياً كما يطالب الجانب الإيراني، فيما يؤكد الرئيس أوباما وجون كيري أن رفع العقوبات سيكون متدرجاً، بعد التحقق، لضمان تنفيذ إيران بنود الاتفاق النهائي. وأن العقوبات ستعود فوراً إذا أخلت ببنود الاتفاق، وهو ما يهدد به الرئيسان أوباما وأولاند.
وكان لافتاً نقل التلفزيون الرسمي الإيراني لكلمة الرئيس الأميركي أوباما لأول مرة على الهواء مباشرة بمناسبة التوصل لاتفاق إطار نووي مع إيران، ما يشير بشكل واضح لطي الصفحة الأخيرة لمحور الممانعة والمقاومة بقيادة طهران الذي بقي شعاراً. وبدء مرحلة التطبيع الرسمي، وربما تطبيع العلاقات، كما جرى أيضاً مع كوبا بعد نصف قرن من القطيعة.
والواقع أن إيران قدمت تنازلات كبيرة وغير متوقعة لتحقيق هدفين رئيسين هما المحافظة على النظام السياسي من خلال صرف نظر الولايات المتحدة والمحافظين الجدد عن تغيير النظام. ووضع آلية لرفع العقوبات الاقتصادية والمالية والنفطية الأميركية والأوروبية والأممية عبر 6 قرارات من مجلس الأمن تحت الفصل السابع، ما أنهك النظام الإيراني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وجلبه لطاولة المفاوضات.
وفيما أشاد أمين عام الأمم المتحدة والنظام السوري باتفاق الإطار النووي، وجه رئيس مجلس النواب الأميركي «جون بينر» انتقادات حادة للاتفاق. ووصفه بأنه «يمثل انحرافاً مثيراً للقلق» عن أهداف أوباما المبدئية. أما نتنياهو، المعارض الرئيسي للاتفاق النووي، فقد بالغ بشكل كبير في رده ونقده للاتفاق. وطالب باتفاق نووي أفضل. وحذر من خطر إيران مطالباً بتضمن الاتفاق النووي التزام طهران بحق إسرائيل بالوجود!
ولم يصدر موقف خليجي مشترك من اتفاق الإطار النووي. ولكن عبر الملك سلمان خلال اتصال هاتفي من الرئيس أوباما، عن الأمل بـ«التزام إيران ببنود الاتفاق، وأن يعزز الاستقرار في المنطقة والعالم». ولطمأنة الحلفاء الخليجيين وجه أوباما دعوة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي الستة لقمة في منتجع كامب ديفيد هذا الربيع، للتباحث في تعزيز التعاون بين الطرفين، ولطمأنة الحلفاء الخليجيين. ولكن على الولايات المتحدة طمأنة حلفائها القلقين من صفقة كبرى مع إيران على حسابنا. كما أن كبح التمدد الإيراني يجب أن يكون جزءاً من الاتفاق الشامل بما يمنع ويردع طهران، ويؤازر المحور الجديد الذي يتصدى لأحد أذرع إيران في اليمن، والضغط على الطرف الإيراني للتوصل إلى حل سياسي في اليمن وسوريا، ورفع اليد عن العراق ولبنان. وذلك بهدف تغيير السلوك والتمدد الإيراني وليس التغاضي عنه. وللحديث بقية.